فصل: مسألة يوصي لرجل بعشرة دنانير فيموت ولا يترك إلا مالا غائبا:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البيان والتحصيل والشرح والتوجيه والتعليل لمسائل المستخرجة



.مسألة يوصي لرجل بعشرة دنانير فيموت ولا يترك إلا مالا غائبا:

قال يحيى: وسألته عن الرجل يوصي لرجل بعشرة دنانير، فيموت ولا يترك إلا مالا غائبا أو ديونا على الناس، فيريد الموصى له بالعشرة أن يتعجلها، ويقول الورثة: إذا تقاضينا أعطينا لها، قال: يخير الورثة بين أن يعجلوها وبين أن يقطعوا له بالثلث، فينظر قدوم الغائب، أو يتقاصاها لنفسه، بمنزلة الإخوة للأم في فريضة ثلثهم.
قال محمد بن رشد: قوله: ولا يترك إلا مالا غائبا أو ديونا على الناس، معناه لا يترك مالا تخرج العشرة من ثلثه، إلا بماله من المال الغائب أو الديون؛ فقوله: يخير الورثة بين أن يعجلوها وبين أن يقطعوا له بالثلث، معناه أنهم يخيرون بين أن يعجلوها من الناض الذي ترك، وإن أحاطت به، وبين أن يقطعوا له بالثلث، ولو لم يكن له ناض أصلا لما لزمهم أن يعجلوا له العشرة من أموالهم، وإنما عليهم أن يعجلوها له من أول ما يقبض من الديون، وأن يبيعوا فيها أعجل ما يمكن بيعه من العروض، وكذلك يبيعون فيها من الديون إن كانت مؤجلة.
هذا معنى قول ابن القاسم في هذه الرواية، وهو مذهبه في المدونة؛ لأنه قال فيها: إن الرجل إذا أوصى للرجل من النقد بما لا يحمله ثلث ما ترك من العين، خير الورثة بين أن يعجلوا له ذلك، أو يقطعوا له بالثلث من جميع مال الميت، ومثله حكى أصبغ عنه وعن مالك وأصحابه كلهم في صدر سماعه بعد هذا من هذا الكتاب، وهو قول سحنون، قال: إذا أوصى الرجل بوصية، وماله ناض وغرض، فأراد الموصى له أخذ الناض، وقالت الورثة: لا نرضى في العروض، ونأخذ العين، فإنه يقال لهم: إن شئتم أن تسلموا العين، وإلا فأخرجوا الثلث كله، وزعم أنه أصل من العلم جسيم قال: وهو بمنزلة العبد يجني جناية تسوى درهمين، فيقال للسيد: افتكه، وإلا فأسلم العبد بالجناية. وذهب أصبغ إلى أنه لا يلزم الورثة أن يدفعوا إلى الموصى له بالعين إلا ثلث الناض، وثلث كل ما ينض، إلى أن يستوفي وصيته، ولا يقال للورثة: إما أن تعجلوا للموصى له وصيته من العين، وإما أن تقطعوا بجميع الثلث، إلا أن يكون الذي أوصى له به من العين معينا، مثل أن يقول: ادفعوا إليه المائة التي تركت ناضة، أو التي لي عند فلان، وما أشبه ذلك، ولا اختلاف في الدنانير المعينة أنه يلزم الورثة أن يدفعوها إليه، أو يقطعوا له بجميع الثلث، وإنما الاختلاف في غير المعينة على ما ذكرناه، فذهب أصبغ إلى أنه لا يلزم أن يعجلوها له، وهو قول ابن القاسم في رواية ابن أبي جعفر عنه، فإنه قال: سألت ابن القاسم عن رجل أوصى لرجل عشرين دينارا، فلم يكن له من الناض إلا ثلث دينار، أو له دين على الناس، فطلب الموصى له أن يعطى ما أوصى له به، قال: ينتظر حتى يبيعوا ويقتضوا، وليس له أن يراكضهم، وإنما ذلك في الديون الغائبة التي يعطى ما سمى له أو يقطع له بالثلث، وبالله التوفيق.

.مسألة كتبت عند خروجها كتابا لبني زوجها وليس لها ولد:

ومن كتاب الأقضية:
قال يحيى: وسألت عبد الله بن وهب عن امرأة خرجت من الأندلس تريد الحج، ثم تسكن الشام، فكتبت عند خروجها كتابا لبني زوجها، وليس لها ولد، إن أصابها قدرها في وجهتها، فلهم من رقيقها كذا وكذا رأسا سمتهم لهم، وجعلتهم في أيديهم وحازتهم لهم؛ ليكون لهم منفعتهم، وتركت رقيقا سواهم، وأنصبا في قرى، فلما بلغت مصر كتبت إلى رجل من الأندلس، تأمره في كتابها ببيع ما كان لها بالأندلس من رأس أو غيره، ولم تذكر في كتابها الذي أوصت به لبني زوجها أن يباع أو يترك، فأراد وكيلها بيع ما في أيدي بني زوجها من الرقيق التي أوصت بها لهم. وقال: إنها قد فسخت عليكم الوصية؛ إذ أمرت ببيع ما خلفت بالأندلس، وقال بنو زوجها: إنها قد تركت بالأندلس غير الذي أوصت به لنا، فذلك الذي أمرت ببيعه، ولم يذكر بيع ما أوصت به لنا، ولو أرادت أن يباع ذلك لذكرته، في كتابها باسمه، ولها بالأندلس رقيق وعقار، فذلك الذي أمرت ببيعه وسكتت عما في أيدينا، قال ابن وهب: أرى أن يوقف الرقيق التي أوصت بها لبني زوجها في أيديهم بحالها، ويكتب إليها لتبين أمرها، ويمنع الوكيل من بيعها، فإن رجعت عن وصيتها كان ذلك بيدها، وإن أمضت فالأمر إليها.
قلت: أرأيت إن ماتت قبل أن يعرف رأيها؟ قال: الوصية ماضية في ثلثها إذا لم يثبت رجوعها عن الوصية بالأمر البين حتى ماتت، وسألت عن ذلك ابن القاسم فقال: أرى الذي كتبت به من بيع كل ما كان لها بالأندلس نقضا لوصيتها؛ لأن تلك الرقيق من مالها حتى تموت، فتثبت الوصية لأهلها، ومما يبين ذلك أنها لو أشهدت في موضعها الذي سكنت، أو في سفرها بعد تلك الوصية أني قد تصدقت على فلان بكل مالي بالأندلس، إن ذلك يؤخذ منهم، وتكون الصدقة أثبت من الوصية، ولو أعتقت كل ما كان لها بالأندلس من رأس، لوجب العتق بجميع الرقيق، وكان ذلك نقضا للوصية.
قال محمد بن رشد: قد استدل ابن القاسم لقوله بما ذكره من التعلق بظاهر ما كتبت له، إذا أمرت ببيع كل ما كان لها بالأندلس من رأس، فرأى ذلك نقضا لوصيتها؛ لأن تلك الرقيق من مالها. وقول ابن وهب عندي أظهر؛ لأنها لما أوصت لبني زوجها بما أوصت به لهم من رقيقها وحوزتهم إياهم لتكون لهم منفعتهم طول حياتها، وجب لهم الانتفاع بها حياتها، ولم يكن لها أن ترجع عنه بأن تأمر وكيلها ببيع الرقيق بعد موتها؛ إذ قد وهبت منفعتهم حياتها هبة صحيحة مقبوضة، وإن كان لها أن ترجع عن الوصية بالرقيق لهم بعد موتها؛ لأن من أخدم رجلا عبدا حياته وحوزه إياه، فليس له أن يرجع فيه، فلما لم يصح لها ما كتبت به من بيعهم وإخراجهم عن أيديهم طول حياتها، وبطل توكيلها على ذلك بقيت الوصية على حالها، وبالله التوفيق.

.مسألة كان وصيا لأبيه فزعم أنه باع وصيفة لأخت له كانت في حجره:

قال يحيى: وسألت ابن وهب عن رجل كان وصيا لأبيه، فزعم أنه باع وصيفة لأخت له كانت في حجره، كان يليها يوم باع، فزعم أنه باعها بمائتي دينار، وأنه اشترى لها بثمن الوصيفة رأسين بمائتي دينار، وزاد من عنده سبعين دينارا، فسئل البينة على ما ذكر من ذلك، فأتى بشهود، فشهدوا أنه أدخلهم على أخته تلك، فأشهدهم عليها أنه قد اشترى لها رأسين بمائتي وسبعين دينارا، فسئل الشهود عن تفسير ما أشهدهم عليه، أذلك من ثمن الوصيفة أم لا؟ فقالوا: لا علم لنا، إنما أشهدنا عليها بأنه اشترى لها رأسين بمائتين وسبعين دينارا، فقبلت ورضيت، وقبضت الرأسين، ثم ادعت الأخت بعدما خرجت إلى زوجها، أن ثمن الوصيفة قبله، وأن الذي اشترى لها به الرأسين من غير ذلك من مورثها أو غيره، فجاء الوصي بالبراءة من جميع مورثها، وزعم أن ابتياعه الرأسين لها بعد قبضها مورثها من أبيها، ولم يكن لها عنده إلا مورثها، وثمن الوصيفة التي باع لها، فهل ترى أن يبريه ما شهد به الشهود من ثمن الوصيفة أم لا يكون له براءة حتى يشهد الشهود أن الرأسين من ثمن الوصيفة بعينها؟ قال: أما إذ هو وصي ناظر. فأرى أن يحلف بالله ما اشترى الرأسين لها، إلا من ثمن الوصيفة، ويبرأ من ثمنها إلا أن تأتي أخته بالبينة أن لها قبله شيئا سوى ثمن الوصيفة، فينظر لها. قلت: فالسبعون دينارا التي زعم أنه زادها من عنده، أيتبعها بها؟ قال: إن مات الرأسان اللذان اشترى لها بالمائتين والسبعين، فلا تباعة له قبلها في السبعين، من أجل أنه أرادها من له بغير أمرها، وفي حين ولايته، ولم يكن ينبغي له أن يشتري عليها بأكثر مما لها قبله، فيجعلها غارمة مطلوبة بدين: قال: وإن كان الرأسان بحالهما لم يتغيرا خيرت، فإن شاءت غرمت السبعين، وحبست ما اشترى لها، وإن كرهت ردتهما وأغرمته المائتي دينار ثمن وصيفتها.
قلت: أرأيت إن رضي أن يمضيها لها بالمائتي دينار، وتسقط عنها تباعته في السبعين التي زاد من ماله، أيلزمها حبسها أم ترد عليه الذي كان من زيادته في الثمن بغير أمرها؟ فقال: يلزمها حبسها؛ لأنه لا عدد لها في ردها إذا أوضع عنها تباعته فيما زاد بغير أمرها. قال: وسألت عن ذلك ابن القاسم فقال: أرى يحلف بالله لقد أدخل المائتي دينار ثمن الوصيفة في الرأسين، ثم يبرأ، فقلت: لابن القاسم: فالسبعون الدينار، أيتبعها بها؟ قال: لا أرى ذلك عليها، وذلك أنه إن كانت البراءة قبل بيع الوصيفة، فهو أمر طاع به لها، أو شيء تورع عنه كان عنده من مالها، وإن كانت البراءة بعدما اشترى الرأسين ودفعهما إليها، فالبراءة حسم لما كان لها قبله من مورثها ومن ثمن وصيفتها، ونرى السبعين حينئذ قد دخلت في البراءة، فلا تباعة لواحد منهما قبل صاحبه بعد أن يحلفا.
قال محمد بن رشد: المعنى في هذه المسألة أن الرجل كان وصيا لأبيه على أخته، وكانت في حجره، فلما خرجت إلى زوجها، وملكت أمر نفسها، ادعت عليه أنه كان باع لها وصيفة إذا كان ناظرا لها بمائتي دينار، ولم يدفع إليها ثمنها، فزعم أنه باعها بمائتي دينار، كما ذكرت، وأنه اشترى لها بثمن الوصيفة رأسين بمائتي دينار، وزاد من عنده سبعين دينارا، وأتى على ما ذكر من ذلك بشهود، فشهدوا أنه أدخلهم على أخته، فأشهدهم عليها بما ذكر من أنه اشترى لها رأسين بمائتين دينار، وسبعين دينارا، فقبلت وقبضت الرأسين، ولم يعلم الشهود إن كان ذلك من ثمن الوصيفة أم لا، فلما شهد له عليها بهذا، ادعت أنه إنما اشترى لها الرأسين مما كان لها بيده من مورثها، وغير ذلك من غير ثمن الوصيفة، فأتى هو بالبراءة من جميع مورثهما، وزعم أن ابتياعه الرأسين لها كان بعد أن ملكت أمر نفسها، وبعد أن قبضت مورثها، فهي تقول: المائتان والسبعون التي اشترى بها الرأسين، وأشهد علي بقبضها، إنما هي من غير ثمن الوصيفة، وثمن الوصيفة باق عنده، وهو يقول: لم يكن لها عندي غير ثمن الوصيفة، فقد ابتعت لها بذلك الرأسين بسبعين دينارا، زدتها من مالي سلف لها، فهي تطالبه بثمن الوصيفة، وهو يطالبها بالسبعين، فرأى ابن القاسم أن يحلفا جميعا، ولا يكون لواحد منهما على صاحب تباعة، يحلف هو لقد دخلت المائتان ثمن الوصيفة في ثمن الرأسين؛ إذ لم يكن بقي عنده لها من تركة أبيها سوى ما دفعه إليها، وأتى بالبراءة منه، وتحلف هي على ما ادعت من أنه إنما اشترى لها الرأسين بالمائتين وسبعين مما كان لها عنده سوى ثمن الوصيفة.
وقد بين ابن القاسم وجه قوله في أن السبعين تسقط عنها بيمينها بتوجيه ظاهر، وذلك أنه لما ابتاع لها الرأسين بأكثر من ثمن الوصيفة، ودفعها إليها، ولم يذكر لها الزيادة حتى قامت تطلبه بالأصل، كان ذلك شبهة لها، توجب أن تسقط عنها بها الزيادة مع يمينها، ولم ير ابن وهب هذه شبهة توجب أن تسقط عنها بها الزيادة مع يمينها.
فقال: إن القول قوله مع يمينه في أن الرأسين من ثمن الوصيفة؛ إذ لم يكن لها عنده مال سواه من مورث ولا غيره كما ادعت، فإذا حلف برئ من ثمن الوصيفة، وكان له معها في الزيادة التي زاد في ثمن الرأسين، حكم من أمر رجلا أن يبتاع له عبدا، فابتاع أكثر مما أمره، بزيادة لا تزاد على مثل الثمن، ودفعه إليه، ولم يعلمه بالزيادة، حتى فات بموت أو عتق؛ أنه لا شيء له منها عليه. وقوله: إن كان الرأسان بحالهما لم يتغيرا خبرت إلى آخر قوله، يحتمل أن يكون معناه إذا قام عليها بالزيادة، وطلبها منها بقرب ما دفع إليها الرأسين، على ما مضى القول فيه في رسم العرية، من سماع عيسى، من كتاب البضائع والوكالات، وقول ابن القاسم أظهر أن الزيادة تبطل؛ إذ لم يذكر ذلك لها حتى قامت تطلبه، وفي المبسوطة ليحيى بن يحيى أن قول ابن القاسم أحب إليه من قول ابن وهب، وبه يقول: وإنما اختاره عليه للمعنى الذي ذكرناه، والله أعلم.

.مسألة يوصي بوصايا وعتاقة:

وسألته عن الذي يوصي بوصايا وعتاقة، فتنفذ الوصايا والعتاقة، ثم يطلع على الموصي دين يحيط بماله، وقد شهد العبيد المعتقون على حقوق، فطال زمان ذلك، فاقتسم الورثة، ونما ذلك في أيديهم أو نقص أو استهلك، فقال: ترد الوصايا التي أخذ أهلها منها بحال ما توجد في أيديهم، نامية أو ناقصة، وما هلك منها، فلا ضمان عليهم فيها إلا أن يستهلكوا شيئا، فيغرموه أو يكونوا اشتروا شيئا فحوسبوا به في وصاياهم، فيكون لهم نماؤه، وعليهم ضمانه، ويردون الثمن الذي حوسبوا به، قال: والورثة بهذه المنزلة فيها اقتسموا ما أخذوا على حال الاقتسام، فنماؤه للغرماء، ولا ضمان على الورثة فيه، إلا أن يستهلكوا شيئا، فيكون عليهم غرمه، وما اشتروا على حال البيع، وليس على وجه الاقتسام، فنماؤه لهم وضمانه عليهم، يغرمون الثمن الذي كان وجب لهم. قال: وما اقسموا من ناض ذهب، أو ورق، أو طعام، أو إدام، فإنهم يغرمون ذلك كله، وإنما يوضع عنهم ضمان ما هلك من العروض والحيوان والعقار الذي يقسم بالقيمة، قلت: أرأيت ما اقتسموا من العروض بالقيمة، فغابوا عليه، ولم يعرف هلاكه إلا بقولهم، أيبرءون من ضمانه؟ أو الطعام أو الإدام الذي يوجب عليهم ضمانه، وتراه كالذهب والورق إذا عرف هلاكه بعينه، أيبرءون من ضمانه؟ فقال: ضمانهم في كل ما غابوا عليه كضمان المرتهن والمستعير، وبراءتهم مما عرف هلاكه بالبينة، كبراءة المرتهن والمستعير، وحالهم فيما لم يغب عليه كحالهما.
قال محمد بن رشد: قد مضت هذه المسألة متكررة على نصها في رسم الكبش، من سماع يحيى، من كتاب القسمة، ومضى الكلام عليها هناك مستوفى، فلا معنى لإعادته، وظاهر هذه الرواية أن العتق يرد وإن طال زمانه.
وقد روى أشهب عن مالك في رسم الأقضية الأول، من كتاب المديان والتفليس في الذي يعتق وعليه دين يغترق ماله، وتطول المدة؛ أن العتق لا يرد، والذي يعرف من قول ابن القاسم، وروايته عن مالك، أن العتق يرد دون تفرقة بين قرب ولا بعد، وقد قيل: إن قول ابن القاسم ليس بخلاف لرواية أشهب، وإن معنى قوله: إذا لم يطل الأمر، وقد مضى الكلام على ذلك هذا لك، وظاهر هذه الرواية أنه لا ضمان على الموصي فيما نفذ من الوصايا إذا طرأ دين يردها خلاف ما مضى في رسم الأقضية، من سماع أشهب قبل هذا من هذا الكتاب، وسيأتي من هذا المعنى في سماع موسى، وفي سماع أبي زيد الاختلاف من قول ابن القاسم فيه، قرب آخر الرسم الأول من سماع أصبغ، وبالله التوفيق.

.مسألة يوصي بأكثر من ثلثه بإذن ورثته في مرضه ثم يصح فيقر بذلك:

ومن كتاب أوله أول عبد ابتاعه فهو حر:
قال: وسألته عن الرجل يوصي بأكثر من ثلثه بإذن ورثته، ثم صح صحة بينة معروفة، وقد كتب بالذي أوصى به كتابا فأقره حين صح، ثم مرض بعد ذلك، فمات من مرضه الآخر؛ أيلزم الورثة ما أحازوا له في وصيته التي صح بعدها أم لا؟ فقال: لا يلزمهم إنفاذه؛ لأنه قد صح صحة بينة، وملك القضاء في جميع ماله، واستغنى عن استيذانهم، فإذا حدث به مرض بعد صحة قد ملك فيها القضاء في جميع ماله، فعليه استيذانهم أيضا، وإلا فقد سقط عنهم ما كانوا أذنوا فيه.
قال محمد بن رشد: هذا بين على ما قاله؛ لأنه إذا صح بعد أن استأذنهم فهو بمنزلة إذا أذنوا له، وهو صحيح كمن أقر في مرضه لمن لا يجوز له إقراره في المرض، ثم صح بعد ذلك؛ أن إقراره يلزمه. وقال ابن كنانة بعد أن يحلفوا ما سكتوا إلا عن غير رضا ولا يلزمهم ذلك، وهو بعيد، وبالله التوفيق.

.مسألة يوصي فيقول اشتروا أخي بكذا وكذا ولا يقول أعتقوه:

قال: وسألته عن الرجل يوصي فيقول: اشتروا أخي بكذا وكذا، ولا يقول: أعتقوه عني، غير أنه أمر بشرائه أو بشراء بعض من إذا ملكه في حياته عتق عليه، أترى ما أمر به من اشترائه يوجب له العتاقة؟ قال: نعم، يشترى ويعتق عليه، وذلك إن وجه ما يريد الموصي بمثل هذا، عتاقة الذي يوصي باشترائه. قلت: أرأيت إن لم يبعه سيده بالذي نص الموصي أن يشترى به؟ فقال: يتربص به وينتظر، لعله أن يبدوا له فيه. قلت: وترى انتظاره السنة تجزي؟ قال: ذلك ونحوه وأكثر أحب إلي. قلت: فإن أيسر منه أيستحب أن يوضع ذلك الثمن في عتاقة؟ قال: لا أرى ذلك على الورثة، إن شاءوا فعلوا، وإن كرهوا فهم أحق بذلك الثمن ميراثا لهم.
قلت: أرأيت لو كان قال: اشتروه، ولم ينص ثمنا، فامتنع السيد من بيعة بقيمته؟ قال: يلزمه أن يزاد في ثمنه ما بينه وبين ثلث قيمته، فإن امتنع فلا شيء عليهم أكثر من ذلك، إلا الاستيناء في أمره، والانتظار لرجوعه.
قلت: فإن نص شيئا يشترى به، فلم يكن في ذلك مبلغ ثمنه، فأجاب سيده إلى بيعه منهم بالمبلغ الذي نص أولا يحمل الثلث ما نص، فإذا رد ذلك إلى ثلث ماله، كان الثلث لا يبلغ ثمن العبد، فيجيب السيد إلى أن يبيعهم من العبد بقدر الثلث، أيلزمهم أن يشتروا قدر ذلك ويعتقوه؟ قال: أرى ذلك لازما لهم.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة صحيحة بينة على معنى ما في المدونة وغيرها، لا اختلاف فيها إلا في وجه واحد منها، وهو إذا أبى سيده أن يبيعه بما سمى الموصي من الثمن، أو بزيادة مثل ثلث ثمنه على قيمته، فقال في هذه الرواية: إنه يستأنى به سنة ونحو ذلك، فإن أيس منه رجع الثمن ميراثا، ولم يلزم الورثة أن يجعلوه في عتاقة، إلا أن يشاءوا، وهو ظاهر ما في كتاب الوصايا الأول من المدونة؛ أن الثمن يرجع ميراثا بعد الاستيناء لذلك، وروى ابن وهب وغيره عن مالك فيه أن المال يوقف ما كان يرجى أن يشترى العبد إلا أن يفوت بموت أو عتاق. قال سحنون: وعليه أكثر الرواة. ومثله في الثاني من الوصايا لابن القاسم؛ لأنه قال فيه: بعد الاستيناء والإياس من العبد، ولابن كنانة في المدنية في الذي أوصى أن يشترى عبد بعينه فيعتق؛ أنه إن أيس منه بعتق أو موت اشترى به رقبة أو رقاب، فيعتقون عنه؛ لأنه إنما أراد أن يعتق عنه، وجعل ذلك في عبد صالح توسمه، فإن لم يجد سبيلا إلى اشترائه ففي غيره، وقال: إنما أمرنا بإيقاف الثمن انتظارا بالغلام، لعله أن يحتاج سيده أو يموت فيبيعه الورثة.
قال: فمن أجل ذلك أوقفناه، ولا يدخل قول ابن كنانة في الذي يوصي أن يشتري من يعتق عليه؛ لأنه إنما أراد به عتقه بعينه لقرابته منه، فإذا أيس منه رجع ثمنه ميراثا قولا واحدا، والله أعلم.

.مسألة يقول أعتقوا عبدي الذي حج معي في وصيتي:

من سماع سحنون وسؤاله أشهب وابن القاسم قال سحنون: وسألت أشهب عن الذي يقول: أعتقوا عبدي الذي حج معي في وصيتي، وقد علم أنه حج معه عبد إلا أنه لا يعرف، وادعى ذلك عبيده؛ قال: الوصية باطل، وهو رقيق.
قال محمد بن رشد: قول أشهب هذا في أن الشهادة لا تجوز، والوصية باطل، معارض لقول ابن القاسم في رسم سلف، من سماع عيسى، وليس بمعارض لقوله في رسم يشتري الدور والمزارع من سماع يحيى، ولو كان العبيد كلهم حجوا معه، وكان قد قال في وصيته: أعتقوا عبدي الذي حج معي؛ لكان بمنزلة إذا قال: أعتقوا عني عبدي فلانا، وله عبيد بذلك الاسم، وبمنزلة إذا قال: أعتقوا عني عبدا من عبيدي على ما قاله ابن القاسم في رسم يشتري الدور من سماع يحيى، وقد مضى هناك بيان هذه المسألة، فلا معنى لإعادته، وبالله التوفيق.

.مسألة قال الرجل في وصيته خيروا جاريتي بين العتق والبيع:

قال ابن القاسم: إذا قال الرجل في وصيته خيروا جاريتي بين العتق والبيع، فاختارت البيع، ثم بدا لها في العتق قبل أن تباع، قال: ذلك لها.
قلت: فإن اختارت العتق، فلم تقوم، ثم بدا لها البيع.
قال: لم أسمعه. وذلك لها عندي.
قلت: فإن اختارت البيع، وقالت: بيعوني من فلان، وقالوا: نبيعك في السوق. قال: ذلك لهم؟ وليس لها ذلك، ولا يوضع من ثمنها شيء.
قلت: فإن اختارت البيع، فقالوا لها: إذا رضيت بالملك فنحن نحبسك ولا نبيعك، قال: ليس ذلك لهم إلا برضاها، فإن رضيت بترك البيع، وأن تكون ملكا لهم، ثم أحبوا بيعها فذلك لهم.
قال محمد بن رشد: قوله في الذي أوصى أن تخير جاريته بين العتق والبيع: إنه لا يلزمها ما اختارت من ذلك، ولها أن ترجع عنه ما لم ينفذ فيها باختيارها بيع أو عتق، هو مثل ما تقدم في رسم القطعان من سماع عيسى، ومثل ما يأتي في أول سماع أصبغ، ولا خلاف في هذا أحفظه؛ لأن معنى قوله: خيروا جاريتي بين العتق والبيع، معناه: أعلموها أني قد جعلت لها الخيار في ذلك، فإذا أعلموها بذلك، كان لها أن ترجع من كل واحد منهما إلى الآخر ما لم ينفذ لها ما اختارته أولا، وذلك بخلاف تخيير الرجل أمته بين العتق والبيع؛ لأن تخيير الرجل أمته بين العتق والبيع، فإن اختارت العتق لزمه، وإن اختارت البيع لزمها، ولم يكن لها أن ترجع إلى العتق، وإن لم تختر شيئا حتى انقضى المجلس، جرى ذلك على اختلاف قول مالك في التمليك، ولا إشكال في أنها إذا اختارت البيع فلهم أن يبيعوها ممن شاءوا؛ أنه لا حق لها في أن تباع ممن أحبت، إذ لم يوص لها بذلك، ولا يوضع من ثمنها شيء كما قال.
وأما إذا اختارت البيع، فأرادوا حبسها فقوله: إن ذلك ليس لهم إلا برضاها صحيح؛ لأن لها حقا فيما أوصى لها به من بيعها، ولعله أراد أن يخرجها عن ملكهم لسوء ملكتهم، أو لما علم من أنها تكره البقاء عندهم، فيكون قد أراد القربة بما أوصى به من ذلك، وإنما الاختلاف إذا أرادت هي ألا تباع، هل يلزمهم بيعها، تنفيذا لما أوصى به الموصي أم لا؟ إذ لا قرابة في الوصية ببيعها، إذا لم ترد هي ذلك؛ إذ قد اختلف في وجوب تنفيذ الوصية بما لا قربة فيه من الأمور الجائزات، وفيما يختلف هل فيه قربة أم لا على مذهب من لا يرى فيه قربة؟ وبالله التوفيق.

.مسألة يوصي للرجل ببعض من يعتق عليه فلا يقبل:

قال ابن القاسم في الرجل يوصي للرجل ببعض من يعتق عليه، فلا يقبل. قال: إن كان يحمله الثلث عتق.
قلت: فلمن ولاؤه؟ قال: للذي أعتقه، وكذلك قال لي: ولا أطيق خلافه، وهو أعلم مني.
قال محمد بن رشد: هذا خلاف نص قوله في كتاب الولاء والموارث من المدونة: إنه إن حمله الثلث يعتق عليه، ويكون الولاء له قبله أو لم يقبله، والقولان في الولاء إذا حمله الثلث، ولم يقبله في رسم القطعان، من سماع عيسى، من كتاب العتق؛ ولكلا القولين وجه، فوجه هذه الرواية أنه لما علم أنه يعتق عليه، فأوصى له به، فقد قصد إلى عتقه، فكان كأنه قد قال: إن قبله، وإلا فهو حر.
ووجه ما في المدونة أن الموصي لما علم أنه يعتق عليه إذا ملكه، ولم يكن على يقين من قبوله إياه، حمل عليه أنه أراد عتقه عنه، فكان الولاء له، وكذلك إذا تصدق به عليه أو وهبه إياه ولم يقبل، يختلف في الولاء لمن يكون، والقياس في هذا كله إذا لم يقبل أن يرجع في الوصية إلى ورثة الموصي، وفي الهبة والصدقة إلى الواهب، والمتصدق كما قال مالك في رواية علي بن زياد عنه إذا أوصى له بشقص فلم يقبل، ففي المسألة ثلاثة أقوال إذا لم يقبل.
قيل: يرجع إلى الموصي أو الواهب أو المتصدق، وقيل: يعتق على الذي أوصى له به أو وهبه إياه، أو تصدق به عليه، ويكون الولاء له، وقيل: يعتق على الموصي وعلى الواهب والمتصدق، ويكون الولاء له.
وقد مضى القول على هذه المسألة في رسم المكاتب، من سماع يحيى، من كتاب الصدقات والهبات، وبالله التوفيق.

.مسألة يوصي لرجل بدينار من غلة حائطه:

وسألت ابن القاسم عن الذي يوصي لرجل بدينار من غلة حائطه، وغلته عشرة دنانير، أو بدينار من غلة كل شهر من خراج غلامه، قال: إن ضمنوا له ذلك، وإلا أوقفوا العبد والحائط، وكانت الوصية في ثمرة غلة الحائط.
قلت لابن القاسم: فإن عالت وصاياه ووقعت المحاصة، ثم يضرب هؤلاء، قال: يعمرون وينظر إلى ما أوصى لهم به من الغلة، فيتحاصون به، ويضربون بذلك في ثلث المال، إلا أنه في وصيته في غلة العبد إنما التعمير في أقصرهم حياة من العبيد إن كانوا أقصر حياة، أو الموصى له بالغلة إن كان أقصر حياة.
قال محمد بن رشد: قوله في الذي يوصي لرجل بدينار من غلة حائط معناه حياته، فعلى ذلك يأتي جوابه. وأما قوله: أو بدينار من غلة كل شهر من خراج غلامه، فإنه لفظ وقع على غير تحصيل؛ لأنه إذا أوصى له بدنانير من غلة كل شهر، فلا اختلاف في أنه لا يجبر ما نقص في العام من العام الذي بعده. وقوله: إن ضمنوا ذلك له، وإلا أوقفوا الحائط، يدل على أن من حقهم أن يأخذوا العبد والحائط فيفوتهما إن شاءوا بضمانهم، خلاف ما في رسم الوصية الذي فيه الحج والزكاة من سماع أشهب.
ويحتمل أن لا يحمل ذلك على أنه اختلاف من القول، فيكون معنى قول ابن القاسم في هذه الرواية إذا كانوا أملياء، يؤمن العدم عليهم في غالب الحال، ومعنى قول مالك في سماع أشهب إذا لم يكونوا أملياء، وخيف عليهم العدم، والصواب أن يفسر قول ابن القاسم في هذه الرواية بما في سماع أشهب، فيقال: معناه إذا رضي الموصى لهم بضمانهم، وإنما يوقف العبد والحائط إذا حملها الثلث أو أجاز الورثة الوصية، وقوله: إن الوصايا إذا عالت فلم يجزها الورثة، ورجع في ذلك إلى التحاص في الثلث، فما قاله من التعمير في ذلك بين، وبالله التوفيق.

.مسألة المرأة توصي لزوجها بالوصية ثم تموت وقد كان طلقها:

وسألت عبد الرحمن بن القاسم عن المرأة توصي لزوجها بالوصية ثم تموت، وقد كان طلقها، فقال ابن القاسم: إن كانت علمت بطلاقه فوصيتها جائزة له، وإن كانت لم تعلم بالطلاق لم تجز الوصية؛ لأنها أوصت يوم أوصت، وهي تظن أنه لها وارث، والوصية للوارث لا تجوز، قال سحنون: وقال لي أشهب: هي جائزة علمت أو لم تعلم. قال سحنون: وأخبرني القرشي عن المخزومي، وابن أبي حازم، وابن كنانة، وابن نافع أنهم قالوا: تجوز وصيتها له، وهي جائزة.
قال محمد بن رشد: قول ابن القاسم في هذه المسألة صحيح، واعتلاله ضعيف، فلو قال: إن وصيتها له لا تجوز، إلا أن تعلم بطلاقها إياها؛ لأنها إنما أوصت له لما بينهما من حرمة الزوجية، ولما بين الزوجين من المودة، فأرادت أن تزيده بالوصية على ما فرضه الله له بالميراث، ورجت أن يجيز ذلك له الورثة، ولعلها لو علمت أنه يطلقها لما أوصت له بشيء، أو قد طرد ابن القاسم اعتلاله في هذا على ضعفه، فقال في المدونة: إنه إذا أوصى لأخيه بوصية وهو وارثه، ثم ولد له ولد يحجبه عن الميراث، فالوصية له جائزة؛ لأنه قد تركها بعد الولادة، فصار مجيرا لها بعد الولادة، فالأظهر في هذه المسألة قول أشهب، والمخزومي، وابن أبي حازم، وابن كنانة: إن الوصية له جائزة، وإن لم يعلم بالولادة، والأظهر في أوصت لزوجها ثم طلقها.
قول ابن القاسم: إن الوصية له لا تجوز، إلا أن تكون علمت بطلاقه من أجل ما ذكرناه، لا من أجل أن الوصية للوارث لا تجوز؛ لأن ذلك إنما هو من حق الورثة، إن أجازوها جازت، ليست بحق الله فتفتسخ على كل حال، إلا أن يجيزها بعد أن علم أنه غير وارث، فكما تبطل وصيته إذا أوصى له وهو غير وارث، ثم صار وارثا، فكذلك ينبغي أن تجوز إذا أوصى له وهو وارث، ثم صار غير وارث، إلا أن يدخل ذلك ما دخل الزوجة توصي لزوجها ثم يطلقها، وقد روى عن ابن القاسم مثل قول أشهب وابن كنانة، وابن أبي حازم، وذلك عندي في غير الزوجة، وبالله التوفيق.